إن وضع تعريف موحد ومتفق عليه لمفهوم التاريخ أمرٌ فيه من الصعوبة الكثير، لأن الأحداث التاريخية التي وصلتنا عن التاريخ الإنساني غير شاملة وغير موثقة، وكل مؤرخ من المؤرخين ينظر إلى هذه الأحداث من زاوية تختلف عن غيره، لذا فتعريفات الفلاسفة لهذا المفهوم اختلفت من مدرسة فلسفيّة إلى أخرى ، وفي هذا المقال سنعرض ما مفهوم التاريخ في الفلسفة من خلال أهم التعريفات لآراء بعض الفلاسفة في تحديد هذا المفهوم.

ما مفهوم التاريخ في الفلسفة

لمعرفة مفهوم التاريخ في الفلسفة لا بدّ من معرفة أن الفلسفة والتاريخ مصطلحان متقاطعان في كثير من الأبحاث والدراسات، ولا يمكن البحث عن أحدهما بمعزل عن الآخر.

ما مفهوم التاريخ في الفلسفة
ما مفهوم التاريخ في الفلسفة
  • الفلسفة بمعناها المراد هنا هي محاولة فَهم وتفسير وتحليل الظواهر بتجريدها وتحويلها لمصطلحات يمكن استخدامها في سياقات مختلفة، كما أن التاريخ كما سبق تعريفه هو علم ساكن كالجغرافيا التي تصف الأماكن والمناطق، فإذا تم تحريك التاريخ بتوظيفه، يتم دمجه مع الدراسات الفلسفية.
  • فيصير اسمه “فلسفة التاريخ” وهو العلم الذي يسعى لاكتشاف القوانين المحرّكة للنهضات وتطوّر المجتمعات وتراجعها، ويسعى هذا العلم لحل المشاكل القائمة والمتوقعة مستقبلاً بناءً على نظرة الباحث أو المفكر للأحداث التاريخية، وحكم الباحثين على الوقائع قد يعبّر أيضًا عن فلسفة التاريخ اصطلاحًا.
  • عن مفهوم التاريخ في الفلسفة، يجب إدراك أنّ النظرات الفلسفيّة متفاوتة ومتباينة، وأن نظرة فيلسوف ما قد تختلف كليًّا عن نظرة فيلسوف أو باحث آخر، حتّى الناظر للتاريخ بفلسفة عربية مختلف عن طابع الفلسفة الغربي.
  • ولا يمكن نسيان فلسفة المسلمين في توثيق وتحقيق الروايات والأخبار التاريخية، بتضعيف بعضها واعتماد بعضها الآخر، حتى برزت علوم عربية إسلامية أصيلة في هذا المجال وارتبطت بعلم الحديث وهي علم الجرح والتعديل وعلم الرجال.

تعريف التاريخ لغة واصطلاحاً

يتفق المؤرخون على أن كلمة التاريخ لا تحمل معنى اصطلاحيا محددا تشير إليه، كما لا تحمل معنى لغويا واحدا ينصرف إليها الذهن عند سماعها.

  • على مستوى اللغة تعني التعريف بالوقت، وقد تعني مرور الزمن وما حفل به من أحداث، وقد تعني لحظة فارقة في الزمن بسبب أهميتها على نحو ما يذهب إليه البعض من وصف حدث ما بأنه “حدث تاريخي” بالنظر إلى أهميته وتداعياته.
  • ومن ناحية أخرى لا يتفق المؤرخون على تعريف محدد لمصطلح التاريخ ويرجع المؤرخ المصري قاسم عبده قاسم ذلك إلى أن التاريخ علم متنوع المشارب ومعقد ومركب شأنه في ذلك شأن البشر الذين يهتم بتسجيل فعالهم .

مفهوم التاريخ عند ابن خلدون

مفهوم التاريخ عند ابن خلدون :

  • كان المؤرخ العربيّ “عبد الرحمان بن خلدون” قد عرّف التاريخ في مقدّمته بقوله “فإنّ فنّ التّاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشدّ إليه الركائب والرحال…إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسّوابق من القرون الأول…وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق…”(ابن خلدون، 1569/1981، ص4).
  • ويوحي كلامُ ابن خلدون بوجود اختلافات في النّظرة إلى التاريخ، بين من يراه في ظاهره بأنّه ليس سوى مجموعة أخبار عن الأمم والشّعوب السّالفة، وبين من ينظر إليه على أنه علم من العلوم الأصيلة والعريقة، لما يستوجب العمل فيه من التزام بخطوات التدقيق والتحقيق والتعليل والربط بين الأسباب والنتائج وطبعًا كان هو من أنصار الرأي الثاني، كما لفت “ابن خلدون” في كلامه إلى الصلة التي تربط التاريخ بالحكمة – أي الفلسفة وفق اصطلاح زمانه – فهو “أصيل في الحكمة” أي لا ينفكّ عنها.

قد يهمك :

مفهوم التاريخ عند هنري إريني مارو

مفهوم التاريخ عند هنري إريني مارو :

  • ينبغي التمييز بين “التاريخ” كمعرفة عادية و”التاريخ” كمعرفة علمية. وهذا ما يؤكده “هنري-إريني مارو” (1904-1977) الذي يذهب إلى أن “التاريخ”، بما هو معرفة بالماضي الإنساني، ليس مجرد سرد لأحداث الماضي كما في الحكايات الشعبية أو في الأعمال الأدبية التي تُعيد كتابة تلك الأحداث بطريقة إنشائية
  • وإنما هو “عمل علمي” يتوخى بناء معرفة حقيقية بأحداث الماضي وفق منهج مُنظَّم وصارم يُميِّز، من جهة، بين الوسائل (طرق البحث وتقنيات الاكتشاف) والغايات (نتائج البحث كمعرفة صحيحة وحقيقية بالواقع).
  • ويفصل، من جهة أخرى، بين التعامل الواقعي مع الأحداث (المعالجة العلمية) والتعامل الفني والتخييلي معها (المعالجة الأسطورية والأدبية). ولهذا، فإن “التاريخ” يتحدد في ارتباطه بـ”الحقيقة” التي يعمل المؤرخ على بنائها بشكل منهجي يُمَكِّنُ من إدراكـ واقعي لأحداث الماضي.

مفهوم التاريخ عند بول ريكور

مفهوم التاريخ عند بول ريكور :

  • إن زمن الموضوع التاريخي أو الواقعة التاريخية يختلف عن زمن تواجد المؤرخ باعتباره ذاتا عارفة، وعليه فالمعرفة التاريخية ليست معطاة بقدر ما هي معرفة مؤسسة على استحضار وثائق وأحداث تاريخية، وذلك حسب منهج العلوم الحقة، الذي يبقى مع ذلك منهجا خاصا، نظرا لطبيعة الموضوع المحكوم بذاتية المؤرخ ونظرته. « يتمكن المؤرخ معتمدا على الوثائق ومنطلقا من الملاحظة المنهجية، من بناء الوقائع التاريخية».

مفهوم التاريخ عند ریمون آرون

مفهوم التاريخ عند ریمون آرون :

  • إن المعرفة التاريخية تسعى لإعادة بناء ما كان موجودا ولم يعد انطلاقا مما بقي كأثر، فالمسافة الزمنية التي تفصل الماضي عن الحاضر تجعل إدراك معاني ودلالات سلوكات وإنجازات السابقين باعتبار تواجدهم ضمن عالم غريب عنا مسألة صعبة تتطلب استعدادا فكريا وجهدا منهجيا، وهذا بخلاف المعرفة التلقائية والمباشرة المتوفرة في الحاضر. « إن المعرفة التاريخية التي تنجم عن عملية إعادة البناء هذه تنفصل عن تجربتنا الخاصة في الحاضر».